نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الصورة المُضلِّلة الدوّارة من قندهار إلى أسوان - بلس 48, اليوم الأحد 6 يوليو 2025 09:33 مساءً
صورة طريق متهالك، تتوسطه شقوق عميقة وحفر واسعة، انتشرت على مدار عشر سنوات في عشرات المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، وكل منها يزعم أن الصورة التُقطت لطريق مألوف يهدد سلامة المواطنين. مرّت الصورة نفسها من قندهار الأفغانية إلى أسوان المصرية، وتبدّلت معها الروايات من شكوى محلية إلى اتهام رسمي، ثم تحوّلت من وثيقة احتجاج إلى صورة يُعاد توظيفها في إنتاج الخداع بشكل متكرر.
ظهرت أجزاء من الصورة لأول مرة في 13 نوفمبر 2015، عبر منشور على إحدى صفحات "فيسبوك" الأفغانية التي تُدار من خارج أفغانستان، واستخدمت آنذاك في سياق الحديث عن مخالفات تحديد وزن حمولة الشاحنات، بهدف منع تلف الطرق. أكدت الصفحة أن الصورة ملتقطة على طريق قندهار - كابل، وتعكس بالفعل مشكلة مزمنة يعاني منها ذلك الطريق الحيوي.
لكن المدهش أن الصورة لم تتوقف عند الحدود الأفغانية. ففي 14 ديسمبر 2017، أعيد تدويرها على موقع إلكتروني مصري، ضمن تقرير عن تأهيل الطرق المتهالكة في محافظة الدقهلية، ومشروعات ازدواج بعض الطرق. ولم يُذكر أنها صورة أرشيفية أو مأخوذة من سياق مختلف، بل ظهرت وكأنها توثّق الوضع الراهن للبنية التحتية في المحافظة.
ومع مرور الوقت، تحولت الصورة إلى مادة إعلامية "دوّارة"، تُستخدم أينما دعت الحاجة، دون مراعاة لمصداقيتها أو لارتباطها بالسياق. ففي 26 أبريل 2018، نشرت مجلة مصرية الصورة ذاتها، ولكن هذه المرة في تقرير ينفي أن تكون الصورة لطريق جمصة - المنصورة، مؤكدة أنها تعود إلى طريق المحاجر بأسيوط الغربي في مطلع عام 2017. وأشارت إلى أنه جرت معالجة المنطقة المتضررة بالفعل من جراء الحمولات الزائدة، وتقرر ضمّ الطريق إلى المرحلة الثالثة من الخطة القومية للتطوير.
ولم تتوقف رحلتها في مصر، ففي 4 يونيو 2019، ظهرت الصورة مجددًا عبر صفحة فيسبوك تُعنى بشؤون المنطقة الغربية في العراق. أشار المنشور إلى حفريات على بعد 200 متر غرب في مفرق مدينة راوه، تتسبب بأضرار للمركبات وحوادث متكررة، وطالب القائمون على الصفحة بإيجاد حل. الصورة كانت حاضرة، وكأنها دليل دامغ على الشكوى، رغم أنها نُشرت قبل ذلك بثلاث سنوات على الأقل منسوبة إلى طريق أفغاني!
ثم في 29 من الشهر ذاته، استخدمت الصورة نفسها في شكوى محلية من محافظة كفر الشيخ، عبر إحدى صفحات التواصل الاجتماعي، بشأن تدهور حالة مدخل قرية قريبة من مدينة طنطا. حمل المنشور تعبيرًا ساخرًا لافتًا: "الطريق يؤدي إلى تشريح بطن العربيات!"، مما أضفى على المنشور مصداقية بصرية، رغم غياب أي دليل يؤكد صلة الصورة بالموقع المذكور.
وفي 8 فبراير 2020، نشر موقع مصري الصورة نفسها، ضمن استغاثة من مواطن بأسوان يشكو من حالة طريق الوصلة بين إدفو وأسوان، زاعمًا أن تعرّج الأسفلت يتسبب في حوادث متكررة. وعاد الموقع لاحقًا، بعد نحو شهر، لينشر رسالة تؤكد إصلاح الطريق.
في 23 أكتوبر 2021، نشرت منصة إخبارية عراقية منشورًا ينفي خبر وفاة رئيس نادٍ رياضي، وأكدت أنه ما يزال على قيد الحياة وكتب بنفسه منشورًا عن مشكلات الطرق غير المأهولة وكثرة الحوادث. وكان المرفق مجددًا، نفس الصورة المضللة التي تنتشر كالنار في الهشيم بين عدة دول.
وفي 21 مايو 2022، أعادت إحدى صفحات مدينة ذي قار العراقية استخدام الصورة المعروفة، هذه المرة في سياق الحديث عن تدهور الطرق الفرعية بين عدة مدن كبرى.
في 5 يونيو 2025، أسهم كاتب صحفي "مخضرم" في ترويج منشور تحريضي، تضمّن جزءًا من "الصورة الدوارة"، وأرفقه باتهامٍ لمؤسسات الدولة المصرية بـ"تبديد أموال الشعب" على مثل هذه الطرق. أما صاحب المنشور الأصلي، فكتب متسائلًا بسخرية: "ده شكل الطريق اللي بيتعمله إصلاحات؟ شوفتوا بيتعمله إصلاحات ليه؟". وانجرف عدد كبير من المعلقين وراء هذا الطرح، بتعليقات مسيئة لمؤسسات الدولة، دون رد من الكاتب المخضرم، باستثناء تعليق لافت يؤكد أن "هذه الصورة قديمة، من الطريق الصحراوي الغربي في المسافة من المنيا حتى مطاي، وتم إصلاحها بالفعل".
خلال هذه الرحلة الطويلة، استخدمت الصورة في ما لا يقل عن ثمانية مواقع جغرافية مختلفة، على مدار أكثر من عشر سنوات، وفي مئات من الحسابات والمنصات على وسائل التواصل، كثير منها ذات طابع تحريضي. وفي كل مرة، تُمنح الصورة "دور البطولة" في مسرحية الشكوى والاتهام، دون تحقق أو مساءلة.
ولا يمكن إنكار أن كثيرًا من الطرق الفرعية في مصر يجري العمل على قدم وساق لإصلاحها وصيانتها، ومن حق المواطن أن ينشر الصور التي تكشف مواطن الخلل أينما وُجدت، لكن الاعتماد على صورة مضللة لتشكيل صورة ذهنية عامة عن واقع البنية التحتية، أمر يستوجب التوقف عنده.
الأثر الذي تتركه هذه الصورة ليس بسيطًا، فهي ليست مجرد صورة، بل مادة تُؤثّر في الوعي الجمعي، وتُستغل أحيانًا لأهداف سياسية أو إعلامية أو حتى شخصية. التلاعب بالصور، أو إعادة استخدامها دون تدقيق، يُسهم في صناعة سرديات زائفة: إمّا بتحميل مؤسسات الدولة مسؤوليات في غير محلها، أو محاولة ترسيخ صورة ذهنية بعيدة عن الواقع.
من قندهار إلى أسوان، مرّت الصورة عبر الجغرافيا والثقافات واللغات، لكنها في كل محطة وجدت من يمنحها دور البطولة. وقد آن الأوان لأن نتعامل مع الصور بمزيد من الوعي، وأن ندرك أن عبارة "الصورة لا تكذب" لم تعد صحيحة في زمن الفوتوشوب والمونتاج وإعادة التدوير الرقمي. فالصورة بحاجة دائمًا إلى طرح ثلاثة أسئلة أساسية: من التقطها؟ متى؟ وأين؟ وإلا، فسنظل نطارد أوهامًا لا تنتمي إلى الواقع.
0 تعليق