نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عولمة
الجمال - بلس 48, اليوم الاثنين 31 مارس 2025 03:30 صباحاً
احيزون سميرة
الحديث عن موضوع الجمال جعلني أقف وقفة تأملية حائرة ،كيف سأتحدث عن هذا الموضوع الذي يندرج في السهل الممتنع، نظرا لكونه متداخل و عميق و يمكن مناقشته من أكثر من زاوية و مرجعية، وغالبا ما نجده من المواضيع الفلسفية الحاضرة بقوة. وقد كان الاهتمام به بالغا لدى اليونان عبر تاريخ الفلسفة، لكنه مع ذلك يظل منتسبا لمجال المعرفة النظرية و السلوك الأخلاقي أي أنه متعالي عما هو ملموس.
لكن الحديث هنا سيكون عن الجمال شكلا ، بالرغم من أني على إيمان تام بوقع الجمال الداخلي، و الروحي الموجود بسجية الإنسان و فطرته، و انعكاسه على الجمال الخارجي و ربما يجعله يطغى و يغطي رؤية و رأي من حولنا، لننتصر لقول ديفيد هيوم "الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء بل في العقل الذي يتأملها".
الإنفلات من المعايير الثابثة و المحلية للجمال
لطالما كان الجمال محل إهتمام بنو البشر منذ سالف الأزمنة باختلاف الحضارات،الإنسانية المتعاقبة و المختلفة.
و الاهتمام بالشكل ليس وليد اللحظة أو العصر الحالي فقط، و إنما وجد منذ عصور غابرة، لكن بطرق و تقنيات متباينة،بالإعتماد على الطبيعة و عادات و تقاليد المجتمعات و الحضارات، كالحضارة اليونانية أو الرومانية ،المصرية القديمة و أيضا الصينية و الهندية القديمة، فكل واحدة منها كانت تعتمد على معايير معينة تعتبر مقياسا للجمال آنذاك ،كلون البشرة الفاتح مثلا و العيون الواسعة أو الكمال الجسدي و لون الشعر و شكل الشفاه و الجبهة ، و هذا طبعا دون إغفال الجانب الروحي في المسألة، و بالتالي كان هناك نمط معين للجمال بأوصاف محددة و ثابثة، يجب توفرها في المرأة المنتمية لإحدى الحضارات،و هو أيضا ما يمكن أن نلمسه في المجتمعات الصحراوية التي تعتبر السمنة رمزا للجمال ، حيث يتم إخضاع الفتيات لعملية التسمين منذ صغرهن.
عادة ما يتم تقسيم الشعوب إلى ثلاثة أقسام، حسب التنوع الجيني البيض "القوقاز " و الآسيويون "المغول" و السود "الزنوج"، و تتميز كل سلالة بمواصفات متفردة للوجه و العيون و الأنف و لون البشرة ، تجعل لنا القدرة على اكتشاف جنسية الشخص أمامنا بمجرد النظر إلى تقاسيم وجهه و ملامحه ... مما يحيلنا على مميزات للجمال محلية، تحمل طابع الخصوصية و الإنتماء.
لكن الإنفتاح الحاصل اليوم جعل أغلب الحضارات و الدول، تتخلى و تتنازل تدريجيا عن خصوصيتها فيما يرتبط بالجمال الخارجي، بفعل الصورة التي فرضتها وسائل الإعلام، في تسويق الشكل المراد تعميمه على كافة شعوب الأرض، و إعطاء نموذج موحد يجب الإنضباط له لنتحصل على ما يسمى بالجمال، و هو ما تم ترسيخه في لاوعي المرأة من خلال التصنيفات العالمية سواء في المسابقات أو غيرها، كأجمل وجه عربي و ملكة جمال البلد الفولاني، بالإضافة إلى المشاهير و النجوم العالميين، فيصبح الشغل الشاغل هو محاولة التشبه بهن، و هي في نفس الآن محاولة غير مباشرة لطمس معالم الوجوه و سلبها مميزاتها، في أفق إحداث قطيعة و محو للهوية، و بصمة الإنتماء التي تبدو على الملامح بارزة.
و نكون بذلك أمام عولمة الجمال ،و هو في نفس الوقت استثمار للصورة الفردية، فلن يظل هناك جمال مغربي أو مشرقي ولا أنف إفريقي أو جفون آسيوية ، و إنما سنسير وفق نمط محدد سلفا، في قالب مقوقع يحد من التميز و الإختلاف المتعارف عليه، و هو ما يعزز عدم الإعتراف بالتنوع البشري، و يخلق بشكل غير مباشر استنقاصا للذات و احتقارا لمن لا يشارك في هذا السباق ليحيلنا مباشرة على التجميل .
صناعة الجمال أم صناعة المستهلك
كما قلنا سابقا أن الإعلام ساهم بشكل كبير في خلق إنسان غير متقبل لشكله، و هو ما تم تتبيثه في ذهنه و نظرته و تعريفه لمفهوم الجمال ، مما وضع هذا المفهوم في إطار محدد يسعى الجميع للسير نحوه و الوصول إليه، و قد تم ابتداع مجموعة من الوسائل لهذا الغرض منها التجميل، و قد انقسم إلى تجميل بدون جراحة "الفيلر ، بوتوكس، خيوط الشد ...."
و أيضا تدخلات جراحية على مستوى الوجه كالأنف و الخدود مثلا، بالإضافة إلى الشفط و التكبير ناهيك عن الإبتسامة الهوليودية، أو ما يصطلح عليه ب"هوليود سمايل " التي أصبحت تحت الطلب.
طبعا في بداية ظهور الجراحة التجميلية كان يشوبها نوع من التحفظ، بل و عدم التقبل و كانت مرتبطة بالنجوم و المشاهير و علية القوم فقط ، لكن سرعان ما انتقلت العدوى للعامة و أصبحت متوفرة بشكل كبير، و تمسها تخفيضات و طرائق متعددة للتسويق، و يساهم في الإعلان عنها المشاهيرو مؤثري السوشال ميديا، فأصبحنا نرى كائنات تتشابه و قوام ممشوق وخدود مرتفعة و شفاه ممتلئة و أسنان بيضاء ،السؤال المطروح من قال لنا أن هذه المواصفات هي المعايير الحقيقية للجمال؟
و هذا ما يحيلنا على التخمين المتمثل في الاستثمار تحت مسمى الجمال، استثمار يدر أموالا طائلة على أصحاب الشركات المصنعة لمواد التجميل، بالإضافة إلى انعاش مراكز التجميل و إنشاء عيادات في هذا المجال، بحيث تصبح المتاجرة بمفهوم الجمال وجها آخر للربح، بل ويتم تمييعه و خلق هوة كبيرة بين مطلب الجمال و الذات الإنسانية .
لنتساءل هل يعد هذا الاهتمام بالمفهوم منطلق من حبنا لذواتنا، و إدراكنا لقيمة أجسادنا و هذا طبعا أمر جد إيجابي و صحي ، أم أنه لا يعدو أن يكون استهدافا لنا كمستهلكين فقط ؟ لنتجاوز بذلك الاستهلاك المتعارف عليه في الأكل و التبضع ...
الجمال بين التقبل و الهوس
دعونا نتفق أن الإحساس بالجمال ينعكس إيجابا على المستوى النفسي و الاجتماعي للشخص عامة، و قد يمنحه ثقة كبيرة و إرتياح أكبر، كما يبعث شغف الإقبال على الحياة و حبها برضى تام و إيجابية.
فزرع ثقافة الجمال ليس عيبا أو شيئا سلبيا أبدا، و لا بغريب عن مجتمعاتنا أو ديننا و يأتي قول الرسول صلى الله عليه و سلم في نفس السياق " إن الله جميل يحب الجمال" ، لكن غالبا ما يتم إلقاء اللوم و العتاب، على الأشخاص الذين يسعون إلى الجمال بكل الطرق و الوسائل، فيتم وصفهم بأنهم أشخاص غير راضون بخلقة الخالق، و يطمحون لتغييرها و هنا يقع تضارب كبير للآراء و الأفكارو المعتقدات .
لكن الإشكال عندما يتحول الأمر إلى هوس ، هوس المثالية و الكمال و الخلو من عيوب الجسد و البشرة، وهوس المقارنة الغير منطقية، و هو ما يمكن اعتباره اضطرابا نفسيا.
فيصبح الامر اشبه بصراع داخلي ، و كلما ازداد الإعجاب و التتبع لصور النجوم و المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام عامة، كلما أصبح الإنسان أقل تقديرا لذاته و يرى نفسه أقل قيمة و جمالا، و هو ما يخلق أفكارا سلبية عن مظهره و شكله، وينتج مشاعر قلق قد تعزز من ظهور علامات الإكتئاب.
و بالتالي يجب خلق نوع من الموازنة و الإعتدال الداخلي، للرفع من درجات التقبل و التصالح مع الذات و هذا دور المحيط الأسري أولا و الوسط المدرسي و مسؤولية الإعلام أيضا، حيث ترتفع درجات التقبل لدى الشخص، ليس بالضرورة تقبل الأشياء الإيجابية و الجميلة بل أيضا الصفات الأقل جمالا و روعة ،و هذا بحد ذاته تربية و مبادئ يجب غرسها، لأن الجمال يعد مفهوما إجتماعيا بني على أفكار و تمتلات تم الاتفاق عليها، بحيث يتم ترسيخها تلقائيا بالنظر للمكانة الهامة التي يوليها المجتمع الآن للشكل و المظهر الخارجي .
إن الجمال لم يكن يوما مفهوما واحدا، فكيف له أن يكون شكلا أو نموذجا واحدا،و لا توجد وحدة قياس خاصة به لأنه خاضع للذوق و مرتبط بالغريزة و العاطفة و الشعور الإيجابي ، الجمال في التميز فهو كالبصمة و علامة خاصة بكل شخص و بكل ثقافة و انتماء.
0 تعليق