حين تبتعد العواصم.. وتقترب القاهرة - بلس 48

صوت الامة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حين تبتعد العواصم.. وتقترب القاهرة - بلس 48, اليوم السبت 22 مارس 2025 04:45 مساءً

في كل مرة تشتعل فيها غزة، تشتعل في القلب فكرة لا تموت: لماذا تبدأ الحياة في الأماكن التي لا تتوقف فيها الحرب؟

 

رأيت طفلًا من غزة يركض وسط الركام. لم يكن يركض هربًا، بل بحثًا. كان يحمل شيئًا صغيرًا بين يديه، ظننته لعبة، فإذا به كتاب. طفل يبحث عن الكلمات في مدينة فقدت صوتها، وطفولة تبحث عن ظلّها في خرائب الزمان.

 

هناك، في غزة، لا أحد يسأل: لماذا سقط البيت؟ بل: هل بقي أحد تحته؟ لا أحد ينتظر تقارير أو إدانات، فالعدّاد لا يعرف لغة المؤتمرات، بل لغة الأسماء: كم بقي من هذه العائلة؟ كم بقي من المدينة؟

 

أما نحن... فنعيش في المسافة. بين الشهادة والمشاهدة. نتابع الخبر كأنه مشهد مكرّر من فيلم قديم: مأساوي، مؤلم، ولا زرّ لإيقافه.

 

نغضب للحظة، ثم نمضي، كأن القلب لم يرتعش، وكأن الطفل الذي كان في الصورة لم يكن طفلًا يشبهنا.

 

السياسة ليست دائمًا في أيدينا، لكن الضمير لا يحتاج إلى وزارة أو منصب ليعمل. الإنسان لا يُقاس بقدرته على التغيير، بل بإصراره على ألا يتبلّد، ألا يعتاد الموت، وألا يعتبر الجريمة حدثًا عابرًا.

 

غزة ليست قضية تُناقَش، ولا حربًا تُفسَّر، إنها الاختبار الأصعب لإنسانيتنا. المكان الوحيد الذي لا يمكن أن نخرج منه حيادين، أو صامتين، أو مرتاحي الضمير.

أن تصمت أمام المجازر ليس حيادًا، بل انحياز لمن يملك الطائرات.

 

أن تغضّ النظر عن الجوع، ليس حفظًا للمصالح، بل فقدان لما تبقّى من الروح.

 

وفي أماكن أخرى من هذا العالم، تُدفع التريليونات لبناء ناطحات السحاب، تُعقد الصفقات، وتُفتح دفاتر الاستثمار.

 

تُضخ المليارات لبناء الأبراج في نيويورك وميامي، حيث لا قصف، ولا حصار، ولا أنقاض.

 

أموال العرب تُستثمر حيث لا يُعرف اسم غزة، وتُودع في بنوك لا يهمها من يُقتل، بل من يُقرض.

 

المال يُسكب على مدن لا تنام، بينما غزة لا تستطيع أن تغفو ساعة، لأن النوم في الحرب خطر، ولأن الجوع لا ينتظر الصباح.

 

هناك من ينفق على الزجاج والفولاذ، وهنا... في غزة، لا زجاج في النوافذ، ولا حليب في الصباح، ولا رغيف إلا بذاكرة الخبز.

 

لكن غزة لا تطلب منّا صدقات ولا شفقة. لا تطلب سلاحًا ولا شعارات.

 

كل ما تريده أن نحفظ أسماء موتاها، أن نُبقي ذكراهم حيّة، أن نكتب، أن نقول، أن نقف، أن نرفض أن نكون شهود زور على زمن يتواطأ فيه الجميع.

 

وفي هذا المشهد، لم تغب مصر. لم تكن القاهرة في المقاعد الخلفية، ولم تكن في قائمة الغياب.

 

الشعب المصري، كما كان دائمًا، ليس بعيدًا عن هذا الصوت. ما زال يرفض التطبيع، ما زال قلبه مع فلسطين، وعقله مع التاريخ، وكرامته مع الأرض.

 

هذا الشعب الذي رفض التهجير، ورفض المحو، ورفض أن تُختصر فلسطين في بيان، هو ذاته الذي يقول اليوم: غزة لا تُترك وحدها.

 

ومن هذا الوعي الشعبي النقي، تستمد الدولة المصرية قوتها ودورها.

 

لقد وقفنا ضد التهجير، وسنقف ضد الحرب.

 

وقفنا مع الإنسان، وسنواصل، لأننا لا نعرف كيف نكون شيئًا آخر.

 

وغزة، لا تنتظر منّا المعجزات، بل الثبات. أن نظل كما كنا.. لا نخون التاريخ، ولا نخذل الدم، ولا نغلق أعيننا أمام ما نراه واضحًا كالشمس.

 

وحين تبتعد العواصم، وتزداد البرودة في بعض المواقف، تبقى القاهرة قريبة، لا بالخرائط، بل بالموقف.

 

لأن الجغرافيا ليست أوراقًا، بل ضمير.

 

وفي النهاية، أعود إلى الجملة التي لا تموت: الناس هناك.. ونحن هنا.

 

لكن من قال إن القلب يعرف المسافات؟ ومن قال إن المسافة تُلغي الموقف؟

 

غزة في القلب، وغزة، لن تُترك وحدها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق